قوله : ( يتمثل لي الملك رجلا )
التمثل مشتق من المثل , أي : يتصور . واللام في الملك للعهد وهو جبريل , وقد وقع التصريح به في رواية ابن سعد المقدم ذكرها . وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر .
قال المتكلمون : الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا , وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية , و " رجلا " منصوب بالمصدرية , أي : يتمثل مثل رجل , أو بالتمييز , أو بالحال والتقدير هيئة رجل . قال إمام الحرمين : تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه , ثم يعيده إليه بعد . وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء , وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجبا لموته , بل يجوز أن يبقى الجسد حيا ; لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه .
ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة . وقال شيخنا شيخ الإسلام : ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه , بل يجوز أن يكون الثاني هو جبريل بشكله الأصلي , إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل , وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته , ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منتفشا فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغير . وهذا على سبيل التقريب , والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا , بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه . والظاهر أيضا أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى , بل يخفى على الرائي فقط . والله أعلم .
قوله : ( فيكلمني )
كذا للأكثر , ووقع في رواية البيهقي من طريق القعنبي عن مالك " فيعلمني " بالعين بدل الكاف , والظاهر أنه تصحيف , فقد وقع في الموطأ رواية القعنبي بالكاف , وكذا للدارقطني في حديث مالك من طريق القعنبي وغيره .
قوله : ( فأعي ما يقول )
زاد أبو عوانة في صحيحه " وهو أهونه علي " . وقد وقع التغاير في الحالتين حيث قال في الأولى " وقد وعيت " بلفظ الماضي , وهنا " فأعي " بلفظ الاستقبال ; لأن الوعي حصل في الأول قبل الفصم , وفي الثاني حصل حال المكالمة , أو أنه كان في الأول قد تلبس بالصفات الملكية فإذا عاد إلى حالته الجبلية كان حافظا لما قيل له فعبر عنه بالماضي , بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة .
قوله : ( قالت عائشة )
هو بالإسناد الذي قبله , وإن كان بغير حرف العطف كما يستعمل المصنف وغيره كثيرا , وحيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف . وقد أخرجه الدارقطني في حديث مالك من طريق عتيق بن يعقوب عن مالك مفصولا عن الحديث الأول , وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام ونكتة هذا الاقتطاع هنا اختلاف التحمل ; لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث , وفي الثاني أخبرت عما شاهدت تأييدا للخبر الأول .
قوله : ( ليتفصد )
بالفاء وتشديد المهملة , مأخوذ من الفصد وهو قطع العرق لإسالة الدم , شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق . وفي قولها " في اليوم الشديد البرد " دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي , لما فيه من مخالفة العادة , وهو كثرة العرق في شدة البرد , فإنه يشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية .
وقوله " عرقا "
بالنصب على التمييز , زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي في الدلائل " وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فيضرب حزامها من ثقل ما يوحى إليه " .
( تنبيه ) :
حكى العسكري في التصحيف عن بعض شيوخه أنه قرأ " ليتقصد " بالقاف , ثم قال العسكري : إن ثبت فهو من قولهم تقصد الشيء إذا تكسر وتقطع , ولا يخفى بعده انتهى . وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر , فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء , قال : فأصر على القاف , وذكر الذهبي في ترجمة ابن طاهر عن ابن ناصر أنه رد على ابن طاهر لما قرأها بالقاف , قال : فكابرني . قلت : ولعل ابن طاهر وجهها بما أشار إليه العسكري . والله أعلم . وفي حديث الباب من الفوائد - غير ما تقدم - أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين , وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره , وأن المسئول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل . والله أعلم .
سبحان الحي الذي لا يموت